السؤال:
ولله الحمد والمنة إني أعيش في بيت مثالي.. والديَ يعملان في مناصب عالية.. حالتنا ممتازة.. وفر لنا والدانا كل ما نحتاجه وأكثر.. لكن مشكلتي أن والدتي تعاملني معاملة تختلف عن باقي إخوتي!! أنا أكبر إخوتي.. أراها تعاملهم بعناية أكبر.. تتجنب استفزازهم وإغضابهم.. تحاول قدر الإمكان احتواءهم.. لكنها تتجنب أن تفعل ذلك معي!! أريد أن تحبنـي والدتي.. دائمًا أخبرها أني أحبها وأنها أهم شيء في حياتي.. لكنها تتعمد إهانتي.. أظنها تخشى أن أكون أنانية؛ فهي دائمًا تخبرني بذلك، تخشى أن أكون لا مبالية بإخوتي.. أريدها أن تعرف أنه شيء طبيعي في سني.. مرات عديدة جلست معها وأخبرتها ولكنها لا تستجيب.. أريد فقط أن تكف عن استفزازي وعن محاولة إهانتي بأسلوبها.. فلم أعهد منها أبدًا أن تكلمني بهدوء.. قد يكون من ضغوط العمل! طلبت منها أن تأخذ إجازة على الأقل لتهدئة أعصابها.. فهي متوترة دائمًا وعصبية.. حتى أصبحت أنا كذلك، مع أن طبيعتي أحب الهدوء ومتأنية جدًّا، فيما أمي لا تحب هذا الأسلوب فهي تحب السرعة في إنجاز جميع الأمور.. وذلك من الأسباب التي تجعل بيننا مشاكل أحيانًا.
الجواب:
أختي السائلة الكريمة، أقدر فيك هذه المسئولية وهذه الأحاسيس الطيبة، النابعة من قلب كبير.
مشكلتك لو فكرت فيها بعين الحكمة ستجدي أن في طياتها نعما لا تحصى.
أولا: أنت تعيشين كما ذكرت في بيت مثالي، يعني بيت فيه استقرار وهدوء وسكينة ومودة ورحمة، وهذه لوحدها نعمة عظيمة لا تقدر بكنوز الدنيا، فكم هي كثيرة تلك البيوت التي تعيش تفسخا أسريا وعلاقات منهارة.
ثانيا: رزقك الله بوالدين متعلمين، وفي مناصب عليا من المسئولية الوظيفية، وهذا يمنحك فخرا واعتزازا، ويشرفك أن تكوني بنتا لأب وأم حققا داخل مجتمعهما مكانة مرموقة، بل يحملك المسئولية أن تكوني بمستوى أفضل مما أدركه والداك، ليفتخرا بك كما أنت تفتخرين بهما.
ثالثا: أنعم الله عليك بالحياة الطيبة الكريمة، فوفر لك ما تحتاجين إليه، ويسر لك سبل العيش والحياة المادية الجيدة.
إنك لو فكرت بحياتك بعمومها ستشعرين بأنك تمتلكين الكثير مما يفتقده غيرك، ويغبطونك عليه، فهناك من حرموا من حنان الأم والأب وقاسوا معاناة اليتم، وهناك من تحملوا مسئولية الإنفاق على أسرة بكاملها، أو اشتغلوا لأجل تسديد مصاريف دراستهم وعيشهم اليومي لعجز والديهم وفقرهم.. وأنت تفضل الله عليك بأسرة وبحياة طيبة وكريمة، فالواجب عليك أن تكثري من الدعاء أن يديم الله نعمته عليك، وتحمديه وتشكريه ليزيدك من فضله.
ثم عليك أن تعلمي بأن المعاناة الحقيقية هي التي تشلُّ عن التفكير عندما يقاسي العبد عجزا صحيا لا علاج له، أو فقرا وعجزا ماديا أو أزمة مالية تعطل مصالحه وتحطم أحلامه وآماله، أو تفسخا أسريا ينتهي بالطلاق وتشتت الأطفال، وحتى هذه المعاناة تهون مع احتفاظ العبد بقيمه ومبادئه، وثباته على دينه.
وليس معنى كلامي أنني أستصغر حجم معاناتك أو استهين بها، لكن هدفي وغايتي أن أذكرك بالنهم والهبات التي أنعم الله بها عليك، لتشعري بالسعادة والرضا والقناعة.
أما عن طريقة معاملة والدتك لك والتي ترينها مخالِفَة لمعاملة إخوتك، فهذا قد يرجع لأسباب ومبررات كثيرة منها أنك أنت أكبر أخواتك، لهذا فأنت بالنسبة لوالدتك بمثابة الأخت والرفيقة والشريكة لها في تربية أبنائها، وفي تحمل مسئولية إدارة شئون بيتها، لهذا ستشعرين بأن العبء عليك أكثر من إخوتك، وتنالين القسط الأوفر من العتاب والحساب، ودائما تحت المجهر في ملاحظة أمك ومحاسبتها لأقوالك وتصرفاتك، ومظهرك وأسلوب حديثك، ومنهج تفكيرك، وطبيعة حياتك كلها.
وأعتقد أن من شدة حبها لك هي تقسو عليك وتخصُّكِ بهذه المعاملة، فهي لك تشريف وتكليف، وترويض لطاقاتك وإمكاناتك، وتأهيلك لتولي مناصب اتخاذ القرارات، وتسيير الأعمال..
وتأكدي بكل الأحوال أن والدتك مهما أغلظت لك القول أو اشتدت عليك، فهي تحبك جدا وتحترمك، فأنت بنتها البكر وأول فرحتها، بل هي تحبك بشكل أجمل وأرقى من حبها لإخوتك، لأنك كبيرة في عينها وبمستوى أعظم من تصوراتك، لهذا تجدي في معاملتها ترمي بحكمة الأم المربية والمعلمة، تهييئك لتنوبي عنها في غيابها، وتتولي إنجاز المهام التي تنجزها، وتسيير مملكة البيت بنضج وحسن تدبير كتدبيرها، في مراقبة إخوتك، ورعاية شئونهم، وأن تكوني عينها المراقبة التي تبصر بها أخطاء ومساوئ إخوتك، فتسعى لتوجيههم وإرشادهم واحتوائهم، وأن تتحملي معها مسئولية هذه المملكة الصغيرة في كل شئونها..
لهذا فإن كانت تقسو عليك أو تشتد في مخاطبتك ومعاملتك، فلأنها تريدك قوية وثابتة وصامدة في مواجهة تحديات الحياة، صلبة في شخصيتك، ذكية في تفكيرك، ورزينة في إحساسك، وخفيفة ونشيطة وسريعة التصرف، قادرة على حل المشاكل.
في حين إن كانت تتعاطف مع باقي إخوتك وترفق بهم أكثر، فلأنهم الأصغر سنا، هم الرعية التي تحتاج للرعاية، وأنت معها الراعي الذي يرعاهم بالبيت وبخارجه، ولأنها تراهم بعين مختلفة عن العين التي تراك بها، تضعهم في مكان الرعاية في حين تضعك أنت في مكان المسئولية.
والدتك تحبكم جميعا وتعدل في حبها لكم، لكن حبها لك يأخذ طابع الالتزام بالمسئولية وحبها لهم يأخذ طابع الرعاية.
من هنا أنصحك بأن تصبري وتتحملي غضب والدتك، وتغضِّي طرفك عن عصبيتها وانفعالاتها.
وتجربي أن تحبيها الحب الحقيقي الذي هي بحاجة إليه، وهي بحاجة إلى أن تشفقي عليها وتراعي ظروف عملها، وتتفهمي حجم الضغوط التي عليها وأسباب قلقها وتوترها، وتشعري بمعاناتها اليومية والتي تفوق حجم معاناتك.
وهي بحاجة لمساندتك، ولحنانك، ولبرِّك بها، ولمشاركتك لها نفسيا وعمليا، كذلك هي بحاجة لتخففي عنها متاعبها ومشاكلها اليومية.
كما تطمح إلى أن تصلحي من شأنك وتغيري من تصرفاتك التي تكرهها فيك، وتأخذي بنصائحها وتوجيهاتها، وتطيعينها في غير معصية، وتعاملينها في قولك وفعلك معاملة البنت البارة بأمها.
فتذكري أن رضاها من رضا الله وسخطها من سخط الله، واخفضي لها جناح الذل من الرحمة، واستقبليها دائما بالابتسامة الحلوة، والكلمة الطيبة، والقبلة الحنونة، والهدية الرائعة.
ولتكن لك مواقف جادة تحسنين فيها القول والتصرف، وباختصار حاولي أن تتقربي إليها، وتبحثي كيف تكسبي ثقتها واحترامها وافتخارها بك، بدل أن تشعلي تركيزك ووقتك في المقارنة بين معاملتها لك ومعاملتها لأخواتك.
أسأل الله العلي القدير أن يسعدك ويوفقك ويثبتك على الحق، ويصلح أحوالك.
الكاتب: صفية الودغيري.
المصدر: موقع المسلم.